| |
وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّهُ كَانَ لِنَابُوت اليَزْرَ عِيلِي كَرْمٌ فِي يَزْرَعِيلَ بِجَانِبِ قَصْرِ أَخْآبَ مَلِكِ السَّامِرَةِ. (كتاب الملوك الأول ٢١: ١-١٦)
هذه لنا وهذه أيضاً لنا
سياسة إسرائيل الاستيطانيّة في الضفة الغربيّة
تدير إسرائيل نظام تفوّق يهوديّ في كافّة المنطقة الممتدّة بين النهر والبحر، وحقيقة أنّها لم تضمّ الضفة الغربيّة رسميّاً لا تعيقها عن التصرّف هناك وكأنّها داخل حدودها وخاصّة فيما يتعلّق بالاستيطان وتوظيف الموارد الهائلة لتطوير المستوطنات والبُنى التحتيّة المسخّرة للتّشبيك بين سكّانها. عبر تكريس هذه السّياسة أقامت إسرائيل أكثر من 280 مستوطنة وبؤرة استيطانيّة وأسكنت فيها أكثر من 440 ألف مستوطن (لا يشمل شرقيّ القدس) ونهبت أكثر من مليوني دونم من الأراضي الفلسطينيّة - النّهب الرسميّ وغير الرسميّ، وشقّت شوارع تربط المستوطنات ببعضها البعض كما تربطها بأراضي دولة إسرائيل السياديّة غرب الخطّ الأخضر، وبهذه السّياسة تمكّنت أيضاً من إقامة المناطق الصناعيّة. تطبيق هذه السياسة على مدار عشرات السّنين مكّنها أيضاً من تغيير تضاريس الضفة الغربيّة بحيث اختفت ملامحها السّابقة.
يتناول هذا التقرير الآليّات الاقتصاديّة والقضائيّة والتخطيطيّة التي سخّرتها مختلف السّلطات الإسرائيليّة على مدار أكثر من خمسة عقود فمكّنتها من إقامة المستوطنات وتثبيتها وتوسيعها ضمن التركيز على جانبين أساسيّين:
يتمثّل الجانب الأوّل في سعي مختلف سلطات الدّولة إلى تشجيع اليهود على الانتقال للسّكن في المستوطنات وإقامة وتطوير مبادرات اقتصاديّة فيها وفي محيطها. تقدّم الدّولة عبر قنوات رسميّة وغير رسميّة الكثير من الامتيازات والمحفّزات للمستوطنين ومستوطناتهم وهذا الجانب يتناوله التقرير بتوسّع. الامتيازات الكبيرة في مجال الإسكان هي التي تمكّن حتى من يعدمون الإمكانيّات الماليّة الكافية من شراء منزل في المستوطنات والانتقال للسّكن هناك. تعدّ هذه الامتيازات من عوامل سُرعة تزايُد السكّان في مستوطنات اليهود الأرثوذكس الكبيرة في الضفة الغربيّة مثال "موديعين عيليت" و-"بيتار عيليت". إضافة إلى ذلك هناك نحو ثلاثين مستوطنة - بعضها متينة اقتصاديّاً - يحصل سكّانها على امتيازات ضريبيّة كبيرة تصل إلى 200 ألف شيكل سنويّاً لكلّ مكلّف.
كذلك تقدّم السّلطات الإسرائيليّة امتيازات ومحفّزات للمناطق الصّناعيّة في الضفة الغربيّة عبر تخفيض أسعار الأراضي ودعم تشغيل القوى العاملة، وهذا بدوره يشجّع تزايُد عدد المصانع في المناطق الصناعيّة الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة بشكل متواصل. كذلك تشجّع الدّولة اليهود على إقامة بؤر استيطانيّة قرويّة جديدة في الضفة الغربيّة والاستيلاء من خلالها على مساحات واسعة من الأراضي الزراعيّة والمراعي الفلسطينيّة - أقيمت خلال العقد الأخير نحو أربعين بؤرة استيطانيّة قرويّة استولت فعليّاً على عشرات آلاف الدّونمات.
الجانب الثاني الذي يتناوله التقرير هو تضاريس المكان. يسلّط التقرير الضوء على الأثر الذي أحدثته كتل المستوطنات في تضاريس الضفة الغربيّة عبر تقطيعها عرْضيّاً من شرقها إلى غربها: كتلة المستوطنات الأولى أقيمت جنوب بيت لحم وتشمل من الغرب مستوطنتين مدينيّتين هُما "بيتار عيليت" و-"إفرات" ومستوطنات يجمعها مجلس إقليمي "غوش عتصيون" تطوّق بيت لحم وقُراها حتى أطراف برية الخليل (صحراء يهودا) في الشرق، في منطقة مستوطنة "نوكديم". كتلة المستوطنات الثانية أقيمت وسط الضفة الغربيّة وتشمل كلّاً من "أريئيل" و"رحليم" و"عيلي" و"معليه لبونه" و"شيلو" والبؤر الاستيطانيّة التي حولها. تقطع هذه الكتلة الضفة الغربيّة عرْضيّاً وتمتدّ اليوم حتى سفوح الجبال المطلّة على منطقة الأغوار.
في هذا الصّدد تسعى إسرائيل سعياً دؤوباً لزيادة عدد السكّان في كتل المستوطنات المذكورة وتوسيع مسطّحاتها عبر تخطيط أحياء جديدة وتطوير البنى التحتيّة وإعداد الخرائط الهيكليّة وتخصيص احتياطيّ من الأراضي للتطوير والبناء مستقبلاً. لقد سرّع تنفيذ هذه المخطّطات التزايُد السكّانيّ في مستوطنات الكتلتين أعلاه خلال العقد الماضي ومن شأنه أن يُضاعف عدد السكّان مرتين أو ثلاث في مستوطنة "إفرات" في العقود القادمة وأن يُضيف 20 ألف مستوطن إلى "بيتار عيليت" ونحو 8,000 مستوطن إلى "أريئيل".
تأثير الكتلتين أعلاه لا يتأتّى فقط من مساحتهما العمرانيّة الممتدّة على نحو عشرين ألف دونم ومن عدد سكّانهما الذي يقارب 121 ألف مستوطن، فهما علاوة على ذلك تسدّان آفاق التطوير الفلسطينيّ في هذه المناطق وتؤثّران تأثيراً مباشراً على سبُل عيش عشرات آلاف الفلسطينيّين المقيمين في عشرات التجمّعات وعلى مستقبل وجودهم هناك.
-
تمتدّ كتلة مستوطنات جنوب بيت لحم من الخطّ الأخضر وحتى أطراف برية الخليل (صحراء يهودا) بحيث تلامس من الجنوب حدود منطقة نفوذ بلديّة القدس (وبضمنها الأراضي التي ضمّتها إسرائيل عقب احتلالها بأسابيع قليلة) وتمتدّ جنوباً حتى مخيّم العروب للّاجئين. مستوطنات هذه الكتلة وبؤرها الاستيطانيّة تقطع الأراضي الفلسطينيّة بحيث تشكّل حاجزاً يفصل منطقة بيت لحم عن القدس شمالاً وعن الخليل ومناطقها جنوباً، وهي علاوة على ذلك تقطّع منطقة بيت لحم نفسها فتعزل قراها عن بعضها البعض كما أنّها تمنع تطوير مدينة بيت لحم مستقبلاً. إضافة إلى ذلك تسيطر الكتلتان الاستيطانيّتان على شارع 60 الذي هو شريان المرور الرّئيسيّ من شمال الضفة الغربيّة إلى جنوبها وبالعكس ويربط القدس وبيت لحم بمناطق جنوب الضفة الغربيّة.
-
تقطع كتلة مستوطنات وسط الضفة الغربيّة شمال الضفة الغربيّة عرْضيّاً وتمنع التواصل الجغرافيّ بين البلدات الفلسطينيّة. أقيمت مستوطنتا "عيلي" و-"شيلو" والبؤر الاستيطانيّة المحيطة بهما في أحد أخصب المناطق الزراعيّة في الضفة الغربيّة وأكثرها كثافة سكّانيّة ألا وهي منطقة ريف فلسطين التي اعتاش سكّانها على امتداد أجيال من الفلاحة المكثّفة. رويداً رويداً نهب سكّان هذه المستوطنات من الفلسطينيّين آلاف الدّونمات من الأراضي الزراعيّة وسلبوا مصادر رزقهم.
في أعقاب إقامة هذه الكتل الاستيطانيّة قُطعت طريق الفلسطينيّين إلى أراضيهم الزراعيّة الممتدّة على مساحة آلاف الدّونمات إمّا بشكل مباشر عبر إعلانها "أراضي دولة" أو إغلاقها بأوامر عسكريّة مثلاً، وإمّا جرّاء عُنف المستوطنين المدعوم من قبَل الدّولة والذي يخشى الفلسطينيّون بسببه الذهاب إلى أراضيهم. بهذه الطرق سُدّت أمام الفلسطينيّين مساحات تصل إلى 10,000 دونم في منطقة مستوطنتي "تقوع" و-"نوكديم" ومساحات أخرى تقارب الـ 26,500 دونم في منطقة مستوطنتي "شيلا" و-"عيلي" والبؤر الاستيطانيّة المحيطة بهما.
لم تضمّ إسرائيل الضفة الغربيّة رسميّاً، هذا صحيح ولكنّه لا يغيّر شيئاً في الواقع وهو ما يؤكّد عليه التقرير الحاليّ مجدّداً. تنشط مؤخّراً في شتّى أنحاء الضفة الغربيّة ورشات بناء وتمديد بُنى تحتيّة على نطاق لم يُشهد له مثيل منذ عشرات السّنين وهي إنشاءات تهدف إلى إحداث قفزة أخرى في عدد المستوطنين في الضفة الغربيّة - يتوقّع قادة المستوطنين أن يصل عددهم إلى مليون في المستقبل المنظور.
هذه الأموال الطائلة التي توظّفها إسرائيل في الضفة الغربيّة تثبّت أقدامها هناك أكثر فأكثر وتكشف الأهداف بعيدة المدى التي يرمي إليها النظام الإسرائيليّ وبضمنها إبقاء مليوني فلسطينيّ في مكانة رعايا مجرّدين من الحقوق والحماية عاجزين عن التأثير في مستقبلهم، مدحورين في معازل ضيّقة مستضعفة اقتصاديّاً وتضيق عليهم أكثر فأكثر بمرور الوقت. ومن قلب هذا البؤس يشهدون سلب المزيد من أراضيهم وإقامة البلدات اليهوديّة وتطوير بُناها التحتيّة. مع انبلاج العقد الثاني من القرن الـ21 يبدو أنّ إسرائيل مصرّة على المضيّ في العقود القادمة بعزم أكبر على تكريس وترسيخ نظام الأبارتهايد في جميع الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.